أفتتاحية – جريدة أخبار الكويت
في السياسة، لا يكفي الصعود السريع لضمان البقاء، ولا يشكّل القرب من مراكز النفوذ حصانة دائمة أمام السقوط. هذه الحقيقة تعيد تأكيدها تجربة السياسية الأمريكية إليز ستيفانيك، التي تحوّلت خلال سنوات قليلة من نجمة صاعدة في الحزب الجمهوري إلى نموذج صارخ لهشاشة النفوذ القائم على الولاء الشخصي لا على مشروع سياسي مستقل.
ستيفانيك، التي دخلت الكونغرس في سن مبكرة، شقّت طريقها بسرعة لافتة داخل هرم القيادة الجمهورية، حتى أصبحت رابع أعلى شخصية في مجلس النواب. غير أن هذا الصعود لم يكن منفصلًا عن دعم مباشر من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ما جعل مسيرتها السياسية شديدة الارتباط بمزاج التحالفات لا بثبات القواعد.
ومع تصاعد الحرب على غزة، تبنّت ستيفانيك خطابًا متشددًا اتسم بمواجهة الاحتجاجات الطلابية داخل الجامعات الأمريكية، ومهاجمة إداراتها، في مشهد يعكس تحوّل النقاش السياسي في الولايات المتحدة من ساحة الحريات الدستورية إلى منطق التخوين والتجريم. وبدل التعامل مع الاحتجاجات بوصفها تعبيرًا سياسيًا مشروعًا، جرى توظيفها في إطار أمني وأيديولوجي يخدم الصراع الحزبي الداخلي.
التحوّل الحاسم في مسيرتها جاء مع قرار دونالد ترامب سحب دعمه، سواء عبر إلغاء ترشيحها لمنصب سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، أو عبر نقل دعمه السياسي إلى منافسين آخرين داخل الحزب. عند تلك اللحظة، تبيّن أن النفوذ الذي لا يستند إلى قاعدة مستقلة، ينهار فور تغيّر موازين الولاء.
إعلان ستيفانيك اعتزالها العمل السياسي في سن الحادية والأربعين لا يمكن قراءته كقرار شخصي معزول، بل كإشارة أوسع إلى طبيعة النظام السياسي الأمريكي المعاصر، حيث بات النفوذ مرهونًا بالانخراط في منظومات شخصية وإعلامية معقّدة، لا بالبرامج أو المبادئ.
الأكثر خطورة في هذه التجربة هو انعكاسها على صورة الديمقراطية الغربية ذاتها، خاصة حين تتقاطع السياسة الداخلية مع قضايا إنسانية كبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. فالتعامل الانتقائي مع العدوان على غزة، ومحاولات تقييد الأصوات المنتقدة داخل الجامعات ووسائل الإعلام، يثير تساؤلات جدية حول صدقية الخطاب الغربي بشأن حرية التعبير وحقوق الإنسان.
وفي هذا السياق، تبرز أزمة الإعلام الغربي، الذي يُتهم بازدواجية المعايير في توصيف ما يجري في فلسطين، مقابل انفتاحه الكامل في تغطية نزاعات أخرى. وهي ازدواجية لم تعد خافية على الرأي العام العالمي، وأسهمت في تعميق فجوة الثقة بين الشعوب والمؤسسات الإعلامية الكبرى.
ختامًا، تكشف قصة إليز ستيفانيك أن السياسة حين تُدار بمنطق الولاء لا الرؤية، تتحول إلى مسرح مؤقت، وأن النفوذ الذي لا يستند إلى شرعية أخلاقية وشعبية سرعان ما يتآكل. أما الديمقراطية، فتبقى في اختبار دائم، لا تقاس بشعاراتها، بل بقدرتها على تحمّل النقد، وحماية التعدد، والالتزام بالقيم التي تدّعي الدفاع عنها.
اقرأ أيضًا:

