تشهد الساحة الأوروبية في الأشهر الأخيرة سلسلة من التحركات غير المسبوقة على المستويين العسكري والمدني، في ما يشبه استنفاراً استراتيجياً شاملاً استعداداً لسيناريو حرب كبرى لا يستبعدها صانعو القرار. ورغم أنّ الخطاب الرسمي الأوروبي يتجنّب الحديث عن “حرب وشيكة”، إلا أن حجم الاستعدادات الدفاعية الأوروبية والدعوات الموجهة للشعوب والجيش تكشف عن واقع أمني مقلق يذكّر بمرحلة الحرب الباردة.
الاتحاد الأوروبي… مناورات وخطط دفاعية مشتركة
في مارس الماضي، أطلقت المفوضية الأوروبية ما يُعرف بـ خطة “جاهزية 2030” (Readiness 2030)، وهي ورقة بيضاء تحدّد الخطوط العريضة لرفع جاهزية الاتحاد الأوروبي عسكرياً ومدنياً خلال السنوات الخمس المقبلة. وتشمل الخطة:
- تعزيز الصناعات الدفاعية وسد فجوات القدرات العسكرية.
- رفع مخزونات السلاح والذخيرة بشكل كبير.
- تسهيل تنقّل القوات عبر حدود الاتحاد.
كما تسارعت مشاريع الدفاع المشترك، مثل مبادرة “حماية السماء الأوروبية” (European Sky Shield Initiative)، في وقت تُكثف فيه أوروبا المناورات العسكرية بالتنسيق مع حلف شمال الأطلسي، مثل تمرين Steadfast Defender 24 الذي وُصف بأنه الأضخم منذ نهاية الحرب الباردة.
ألمانيا… دعوات صريحة للشباب والانفتاح على التجنيد
في ألمانيا، التي تُعد أكبر قوة اقتصادية في القارة، تحوّل النقاش من مجرد تعزيز النفقات الدفاعية إلى إشراك الشباب مباشرة في معادلة الأمن القومي. فقد أقرت الحكومة مشروع قانون يُلزم كل شاب يبلغ 18 عاماً بملء استبيان إلكتروني يحدد موقفه من الخدمة العسكرية.
ورغم أن التجنيد ما يزال طوعياً، إلا أن القانون يترك الباب مفتوحاً أمام إعادة التجنيد الإلزامي إذا لم تُحقق القوات المسلحة أهدافها. وتطمح برلين إلى رفع حجم الجيش الألماني من 183 ألف جندي إلى ما يقارب ربع مليون خلال الأعوام المقبلة. الجدير بالذكر أن وزير الدفاع الألماني لم يُخفِ في خطابات عدة أن “أوروبا لم تعد في مأمن من التهديدات المباشرة”، وهو ما يفسّر هذه العودة التدريجية إلى منطق التعبئة العامة.
السويد… الدفاع الشامل من البيت إلى الجبهة
في السويد، العضو الجديد في الناتو، لم تقتصر التحضيرات على رفع الإنفاق العسكري إلى 3.5% من الناتج المحلي فحسب، بل امتدت إلى تجهيز المجتمع المدني بكامله عبر استراتيجية “الدفاع الشامل” (Totalförsvaret).
أعادت ستوكهولم توزيع كتيّب “في حال وقوع أزمة أو حرب” على الأسر السويدية، وهو دليل عملي يُرشد المواطنين إلى كيفية التصرف في حالات الطوارئ. ينصّ القانون السويدي على أن كل مواطن بين 16 و70 عاماً يُعد جزءاً من “الدفاع الشامل”، ما يؤكد أن الاستعدادات الدفاعية الأوروبية تشمل المجتمع بأكمله.
ملامح قلق أوروبي عابر للحدود
هذه التحركات تأتي في ظل أجواء دولية متوترة، أبرزها استمرار الحرب في أوكرانيا وتصاعد الخشية من توسعها، فضلاً عن التحديات المرتبطة بالحروب السيبرانية. وتؤكد تقارير بحثية أن القارة بحاجة إلى مئات المليارات من اليوروهات لتعزيز قدراتها الدفاعية إذا أرادت الاستقلال النسبي عن المظلة الأمريكية. يرى محللون أن هذه الاستعدادات لا تعني أن أوروبا تستعد غداً لخوض مواجهة مفتوحة، لكنها بمثابة إشارة إنذار مبكر إلى أن التوازنات الأمنية باتت على المحك.
الكويت والعالم العربي… قراءة في الدروس
من منظور كويتي وعربي، يسلّط المشهد الأوروبي الضوء على أهمية التخطيط الاستباقي وتكامل الأدوار بين الدولة والمجتمع في إدارة الأزمات. فالمعادلة الجديدة في أوروبا تُظهر أن الحروب لم تعد مجرد صدام بين جيوش تقليدية، بل منظومات شاملة تشمل الغذاء، الطاقة، الاقتصاد، والإعلام. وفي عالم يزداد اضطراباً، قد يكون من الحكمة أن تُعيد المنطقة النظر في استراتيجياتها الأمنية والاقتصادية لضمان الحصانة الوطنية.
خلاصة:
أوروبا اليوم لا تعلن الحرب، لكنها تستعد لها بكل جدية. من خطط الاتحاد الأوروبي، إلى دعوات ألمانيا لشبابها، إلى الكتيب السويدي في كل بيت، يبدو أن القارة العجوز دخلت مرحلة “ما قبل الحرب“، حيث الاستعداد لا يقل أهمية عن القتال نفسه.

