في الثامن عشر من أكتوبر، بدت شوارع عدد من الولايات الأميركية كأنها مرآة معكوسة لأحداثٍ اعتدنا مشاهدتها في أماكن أخرى من العالم. مئات آلاف المحتجين خرجوا للتنديد بما وصفوه بالاستبداد الحالي للإدارة الأميركية، ليرتفع السؤال الذي كان حتى الأمس حكراً على منطقتنا: هل بدأت الولايات المتحدة اختبار أول فصول ربيعها؟
أميركا… حين تذوق ما تصفه للآخرين
منذ عقود والولايات المتحدة تقدّم نفسها راعيةً للديمقراطية، ومرشدةً للشعوب في كيفية إدارة احتجاجاتها وتحويلها إلى “إصلاحات”. غير أن المشهد الأخير أظهر أن الدواء الذي وُصف للآخرين قد يُبتلع محلياً، وربما بطعم أكثر مرارة. فبينما كانت واشنطن تراقب عن بُعد ثورات الربيع العربي وتقيّمها بميزان المصالح، ها هي اليوم تجد نفسها أمام مشهد لا يختلف في جوهره: شارع يصرخ، سلطة تُتهم، ومؤسسات عاجزة عن امتصاص الغضب.
الأسباب… باختصار أميركي
ليست الأسعار وحدها ما أشعل فتيل الاحتجاج. هناك من يرى أن “الاستبداد الأميركي” لم يعد سياسياً فقط، بل تمدد إلى الفضاء الرقمي، حيث تخضع المنصات لمعايير انتقائية تحدد ما يجوز وما لا يجوز، فيما المواطن العادي يراقب حسابه البنكي يتبخر بفعل التضخم. إنها وصفة تجمع بين اقتصاد مأزوم، وسياسة متصلبة، وإعلام يكرر خطاب الطمأنة حتى بدا أشبه بخطوط إنتاج آلية.
بين الواقع والرمزية
الربيع العربي كان يحمل طابعاً رومانسياً: شعوب تبحث عن صوت، أنظمة تترنح، وشعارات تُكتب على الجدران. أما الربيع الأميركي، إن وُجد، فهو محاط بآلة ضخمة قادرة على تحويل المظاهرات إلى “حدث جانبي” أو “مهرجان موسيقي” يمر في عناوين الأخبار. الفارق أن الوعي الجمعي الأميركي بدأ يدرك أن الديمقراطية ليست محصنة من الاهتزازات، وأن “المثال الأميركي” قد يحتاج هو الآخر إلى مراجعة عميقة.
المفارقة التاريخية
قد تمر هذه الاحتجاجات كعاصفة خريفية، أو قد تتحول إلى بداية فصل سياسي جديد، لكن المؤكد أن أميركا تجد نفسها اليوم أمام صورة طالما عرضتها على الآخرين: شعوب ترفض الاستبداد، وتطالب بحقها في القرار.
المفارقة أن السؤال الذي لطالما وُجه إلى الشرق الأوسط بات مطروحاً اليوم على البيت الأبيض:
هل الربيع الأميركي قد ابتدأ… أم أن الإدارة ستنجح في إعادة رسمه كحلم لم يكتمل؟
