في خطوة تعكس عمق الأزمة التي تمرّ بها هيئة الإذاعة البريطانية BBC، أدلى رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر بتصريحات حادّة وغير معتادة. أكد ستارمر دعمه لـ “BBC قوية ومستقلة”. لكنه شدد في الوقت نفسه على ضرورة أن ترتّب المؤسسة بيتها من الداخل. في الواقع، هذه إشارة واضحة للقلق المتزايد من تراجع المهنية وتزايد اتهامات التحيز في تغطياتها الإخبارية.
1. خلفيات الأزمة: أبعد من ترامب
رغم أن جزءاً من الضغوط الحالية على BBC مرتبط بالنزاع القانوني مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب (الذي يطالب بتعويضات ضخمة)، فإن هذا ليس سوى جزء من الصورة.
- الأزمة الحقيقية: يرى مراقبون أن الأزمة تتعلق بتآكل الثقة العامة في حيادية BBC.
- الملفات الدولية: على وجه الخصوص، تواجه المؤسسة انتقادات شديدة بشأن تغطيتها لعدد من الملفات الدولية. وفي مقدمتها، الحرب الإسرائيلية على غزة.
2. نقطة التحليل المركزية: التحيز في تغطية غزة وتراجع الثقة
تواجه BBC منذ أشهر انتقادات واسعة. حيث صدرت هذه الانتقادات من منظمات حقوقية، وجماعات إعلامية، وحتى من داخل بريطانيا نفسها. ويرجع السبب إلى أسلوب تغطيتها للحرب على غزة. بالتحديد، تعرّضت لاتهامات بالتحيز لصالح الرواية الإسرائيلية من خلال عدة ممارسات:
- مصطلحات محظورة: تجنّب استخدام مصطلحات مثل “احتلال” و”إبادة جماعية”.
- الرواية الرسمية: التركيز على الرواية الرسمية الإسرائيلية أكثر من أصوات المؤسسات الحقوقية الدولية.
- إغفال الضحايا: إغفال أو تخفيف وقع التقارير اليومية عن سقوط المدنيين الفلسطينيين.
- استبعاد الخبراء: استبعاد خبراء عرب أو فلسطينيين من الحوارات الرئيسية. بدلاً من ذلك، يتم الاعتماد على محللين غربيين أو إسرائيليين.
هذه الممارسات التي وثّقتها تقارير صحفية بريطانية دفعت جزءاً من الجمهور إلى استنتاج أن BBC لم تعد تقف في منتصف الخط الصحفي. بل، انزلقت جزئياً إلى خطاب يميل لإرضاء الحكومات أو القوى الغربية. ويأتي هذا على حساب التغطية المتوازنة.
3. ستارمر بين الدعم والنقد: خطاب مزدوج بذكاء سياسي
في خطابه الأخير، ظهر رئيس الوزراء البريطاني وهو يسير على خيط دقيق:
- دعم الاستقلالية: من ناحية، أكد أن الحكومة لا تريد التدخّل في استقلالية BBC. كما شدد على أن الحكومة لا تتبنّى “أجندة معادية للإعلام العام”.
- ضرورة الإصلاح: من ناحية أخرى، كان واضحاً في قوله إن على الشبكة إصلاح أخطائها الداخلية وإعادة بناء الثقة. هذه إشارة إلى أن الحكومة تراقب ممارسات التحرير والحوكمة عن كثب.
بناءً عليه، يعكس هذا الخطاب المزدوج فهماً سياسياً لواقع حساس. يجب عدم تقويض مؤسسة وطنية عمرها قرن. لكن أيضاً، لا يمكن تجاهل الأخطاء التحريرية والانقسامات الداخلية التي ظهرت خلال السنوات الأخيرة.
4. أزمة داخلية تعصف بالمؤسسة
كشفت تسريبات وتقارير إعلامية منذ أسابيع عن:
- خلافات حادة: خلافات داخل مجلس إدارة BBC حول طريقة إدارة التغطيات.
- استقالات بارزة: بعضها مرتبط بملف ترامب، وبعضها مرتبط بنزاعات التحرير.
- ضغط شعبي: ضغط شعبي متزايد لإعادة تقييم آليات الحوكمة والشفافية.
بالتالي، دفعت هذه التطورات ستارمر للحديث علناً عن ضرورة “ترتيب البيت”. هذا التعبير يحمل في بريطانيا دلالة سياسية واضحة. فهو يعني أن إصلاحات مؤسسية جادة باتت مطلوبة عاجلاً. وإلا، ستفقد BBC قدرتها على لعب دورها التاريخي كمصدر ثقة عالمي.
5. لماذا يهم هذا المتابع العربي؟
لأن BBC ليست مجرد وسيلة إعلام بريطانية. في الواقع، إنها واحدة من أهم المؤسسات الإعلامية في العالم العربي منذ عقود. كما أنها تؤثر في الرأي العام عبر:
- نشر الأخبار: نشر الأخبار والتحليلات باللغة العربية.
- تشكيل الصورة: تشكيل صورة الأحداث العالمية لدى الجمهور العربي.
- تحديد السياقات: تحديد سياقات سياسية تتأثر بها الصحافة الإقليمية.
وعندما تُتهم هذه المؤسسة بالتحيز، خاصةً في قضايا حساسة مثل حرب غزة، تتأثر موثوقية الأخبار. وهذه الأخبار يعتمد عليها ملايين العرب يومياً.
خلاصة تحليلية: اختبار مصداقية BBC
في الختام، إن خطاب رئيس الوزراء البريطاني ليس مجرد انتقاد عابر لـ BBC. بل هو رسالة سياسية وإعلامية عميقة. ومفادها أن المؤسسة بحاجة إلى إصلاحات جذرية. هذا من أجل استعادة دورها التاريخي في تقديم تغطية محايدة وشفافة.
وبالتالي، الأزمة الحالية لا تتعلق فقط بتهديدات ترامب أو الخلافات القانونية. إنها مرتبطة بالأساس بمسألة جوهرية: هل ما زالت BBC قادرة على أن تكون صوتاً مستقلاً وميزاناً صحفياً وسط عالم يزداد استقطاباً؟
ختاماً، تبقى تغطيتها للحرب على غزة وما شابها من تحيزات واضحة ملفاً مركزياً في اختبار مصداقيتها. وهذا الاختبار ليس أمام الحكومة البريطانية فقط، بل أمام العالم العربي والمجتمع الدولي بأسره.

