في السنوات الأخيرة، برز مصطلح التسعير الديناميكي (Dynamic Pricing) كواحد من أهم التحولات الاقتصادية التي أعادت صياغة علاقة المستهلك بالسوق.
فبعد أن اعتدنا على الأسعار الثابتة أو التفاوض المباشر، أصبح السعر اليوم مرآة لحظية تعكس العرض والطلب، وتتغير باستمرار وفقاً للظروف.
هذا التحول لم يعد يقتصر على شركات الطيران أو منصات التجارة الإلكترونية، بل أصبح واقعاً في مطاراتنا، في الفنادق، عند تأجير السيارات، وحتى في أبسط تفاصيل حياتنا مثل طلب سيارة أجرة عبر التطبيقات الذكية.
ما هو التسعير الديناميكي؟
يقوم التسعير الديناميكي على فكرة بسيطة لكنها عميقة: السعر ليس قيمة مطلقة، بل معادلة متغيرة.
هذه المعادلة تأخذ بعين الاعتبار:
- حجم الطلب في اللحظة الراهنة.
- الكمية أو الطاقة الاستيعابية المتاحة.
- التوقيت والموسمية (مواسم العطل، الأعياد، الأحداث الكبرى).
- الموقع الجغرافي وظروف السوق المحلية.
- سلوكيات المستهلك نفسه، المستخلصة من بياناته الرقمية وأنماط بحثه الشرائية.
النتيجة أن السعر الذي تراه اليوم قد لا يكون ذاته بعد ساعة، بل قد يتبدل عدة مرات في اليوم الواحد.
أمثلة من الواقع
1. شركات الطيران والمطارات
لا يوجد قطاع يعكس هذا المفهوم مثل الطيران.
يجلس راكبان متجاوران في ذات الرحلة، لكن أحدهما دفع نصف ما دفعه الآخر فقط لأنه حجز في توقيت أبكر.
شركات الطيران تستند إلى خوارزميات تراقب عدد المقاعد المتبقية، وسرعة امتلاء الرحلة، وفترة الحجز قبل موعد السفر، لتعدل الأسعار في الوقت الفعلي.
2. تأجير السيارات والفنادق
في المواسم السياحية، قفزة الأسعار تكاد تكون قاعدة، بينما في الأيام العادية تنخفض بشكل ملحوظ.
فندق قد يضاعف سعر غرفه إذا تجاوزت نسبة الإشغال 80%، بينما يخفضها بشكل جذاب إذا كان الإقبال ضعيفاً.
الأمر ذاته ينطبق على تأجير السيارات في مطارات العواصم السياحية.
3. خدمات النقل الذكي
تطبيقات مثل Uber وCareem جعلت المستهلك يلمس هذا التغيير يومياً.
رحلة تكلفك صباحاً 5 دنانير قد تصل إلى 15 ديناراً في ساعة الذروة أو عند هطول المطر، وهو ما يُعرف بـ تسعير الذروة (Surge Pricing).
4. الأنشطة الترفيهية والفعاليات
حتى التذاكر الرياضية والحفلات الغنائية لم تسلم من التسعير الديناميكي؛ فكلما اقترب موعد الفعالية وزاد الطلب، ارتفعت الأسعار تلقائياً.
بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية
الإيجابيات:
- يعزز من كفاءة السوق، إذ يمنع الهدر ويضمن استخدام الموارد بأفضل طريقة.
- يمنح الشركات مرونة أكبر لتعويض الخسائر في مواسم الركود.
- يتيح للمستهلك الواعي فرصة للحصول على أسعار منخفضة إذا اختار الوقت الصحيح.
- يشجع على توزيع الطلب على فترات مختلفة، مما يقلل من الازدحام.
السلبيات:
- غياب العدالة في مواقف حرجة، مثل السفر الطارئ أو الحاجة الملحّة لوسيلة نقل.
- استغلال حاجة المستهلك، خصوصاً إذا لم يكن لديه خيار آخر.
- إرباك التخطيط المالي للأسر، حيث لم يعد السعر متوقعاً أو مستقراً.
- إمكانية خلق فجوة اجتماعية بين من يملك القدرة على الدفع في أوقات الذروة ومن لا يملكها.
كيف سيؤثر على حياتنا؟
إذا كان التسعير الديناميكي في بداياته يقتصر على قطاعات محدودة، فإنه في المستقبل القريب قد يشمل مجالات أوسع مثل:
- الرعاية الصحية: تكلفة حجز موعد في مستشفى خاص قد تختلف بين وقت وآخر.
- المواصلات العامة: بعض الدول تفكر في ربط أسعار التذاكر بأوقات الذروة لتخفيف الازدحام.
- التسوق الرقمي: أسعار السلع الاستهلاكية اليومية قد تتحرك وفق حركة الشراء الفورية على الإنترنت.
هذا يعني أننا قد نعيش في عالم تصبح فيه الأسعار أقرب إلى مؤشرات البورصة، تتقلب باستمرار وتفرض على المستهلك يقظة دائمة في قراراته الشرائية.
التحدي القادم: التوازن بين السوق والإنسان
يفتح التسعير الديناميكي الباب أمام نقاش أوسع: كيف نوازن بين ذكاء الخوارزميات وإنصاف الإنسان؟
الشركات تنظر إليه كأداة لتعظيم الأرباح وضمان استدامة النشاط، بينما يرى المستهلك فيه تهديداً لاستقراره المالي وإحساسه بالعدالة.
الحل يكمن في الشفافية:
على الشركات أن تشرح آليات التسعير بوضوح، وعلى الجهات التنظيمية أن تضع ضوابط تمنع الاستغلال وتضمن أن لا يتحول النظام إلى عبء اجتماعي.
كلمة أخيرة
إنه ليس مجرد تحول اقتصادي، بل تغير ثقافي وحضاري في مفهوم السوق نفسه.
التسعير الديناميكي يفرض على الأفراد وعياً جديداً، ويضع الحكومات أمام اختبار صعب لتحقيق التوازن بين حرية السوق وحماية المستهلك.
وفي النهاية، يبقى السؤال مفتوحاً:
هل سنقبل أن نعيش في عالم تحكمه الخوارزميات وتحدد فيه الآلة قيمة ما ندفعه؟
أم سنطالب بآليات تضمن أن تبقى العدالة الاجتماعية حاضرة في معادلة الاقتصاد الجديد؟
