تستعد سويسرا لإطلاق أول نظام رسمي لتدقيق الاستثمارات الأجنبية في القطاعات الحساسة أمنيًا، في خطوة تُعد تحولًا لافتًا عن سياسة الانفتاح الاقتصادي التي شكّلت لعقود أحد أعمدة ازدهارها ومكانتها كمركز عالمي للأعمال الحرة.
وجاء هذا التوجه في ظل تصاعد المخاوف الجيوسياسية عالميًا، وازدياد المنافسة الاقتصادية بين الولايات المتحدة و الصين و الاتحاد الأوروبي، وما رافق ذلك من سباق على تأمين سلاسل الإمداد والتقنيات المتقدمة والموارد الحيوية، لا سيما في مجالات الطاقة، والرقائق الإلكترونية، والدفاع.
صفقات أثارت القلق
وتعود جذور الجدل في سويسرا إلى صفقات استحواذ لافتة خلال العقد الماضي، أبرزها استحواذ شركة ChemChina المملوكة للدولة عام 2017 على عملاق الكيماويات الزراعية السويسري Syngenta مقابل نحو 43 مليار دولار، في أكبر عملية استحواذ خارجية بتاريخ البلاد.
كما سبقتها صفقات أصغر حجمًا، من بينها استحواذ شركة Guangdong Elecpro على شركة Mistral Engines المتخصصة بمحركات الطيران التجريبية، ضمن مساعٍ صينية للحصول على تقنيات متقدمة.
ورغم موافقة الجهات التنظيمية الغربية حينها، أثارت هذه الصفقات مخاوف في بعض الدول من تأثيرها على الأمن الغذائي والتكنولوجي، وهو ما بات اليوم أكثر حضورًا في النقاشات السياسية العالمية.
مشروع قانون جديد
وبعد سنوات من النقاش، أقر البرلمان السويسري مشروع قانون يمهّد لتطبيق أول آلية رسمية لتدقيق الاستثمار الأجنبي المباشر. ويستهدف القانون، في حال إقراره النهائي العام المقبل، عمليات الاستحواذ الأجنبية في قطاعات تُعد حيوية للأمن القومي والنظام العام، مثل:
• شبكات الكهرباء وتوليد الطاقة
• البنية التحتية للرعاية الصحية
• الاتصالات
• السكك الحديدية والمطارات
• مراكز اللوجستيات الرئيسية
وسيتولى تقييم الصفقات جهاز أمانة الدولة للشؤون الاقتصادية (SECO)، بالتنسيق مع جهات أخرى، مع إمكانية الاستعانة بجهاز الاستخبارات الفيدرالي السويسري عند الضرورة. وتهدف المراجعة إلى تحديد ما إذا كان المستثمر خاضعًا لسيطرة دولة أجنبية أو يتحرك بدوافع استراتيجية غير تجارية، ومدى تأثير الصفقة على الاستقلالية الاقتصادية والتكنولوجية والتوظيف.
جدل سياسي داخلي
وأثار مشروع القانون انقسامًا داخل البرلمان، خصوصًا حول ما إذا كان ينبغي قصر التدقيق على المستثمرين المملوكين للدولة، أو توسيعه ليشمل الشركات الخاصة.
وحذّر وزير الاقتصاد غي بارمولان من أن توسيع النطاق قد يضاعف عدد المراجعات السنوية بنحو عشرة أضعاف، ما قد يضر بجاذبية سويسرا كمركز استثماري عالمي.
في المقابل، يرى معارضو هذا الطرح أن شركات خاصة في دول كبرى قد تظل خاضعة لتأثير حكومي غير مباشر. ويستشهدون بدراسات تشير إلى امتلاك السلطات الصينية حصصًا في أكثر من نصف الشركات السويسرية التي استحوذت عليها الصين بين عامي 2010 و2020.
سويسرا ليست وحدها
ويأتي التوجه السويسري في سياق عالمي أوسع، إذ تمتلك نحو 80% من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تشريعات لتنظيم الاستثمار الأجنبي.
ففي عام 2017، منعت واشنطن شركة Canyon Bridge من الاستحواذ على شركة Lattice Semiconductor لأسباب تتعلق بالأمن القومي، بينما دفع الاتحاد الأوروبي نحو آلية موحدة لحماية الأصول الاستراتيجية في مجالات الطاقة والتكنولوجيا والبنوك.
بين الانفتاح والحماية
ويؤكد مؤيدو القانون في سويسرا أن الهدف ليس تقييد التجارة الحرة، بل حمايتها في بيئة دولية تتسم بتزايد المخاطر. ويقول السيناتور Carlo Sommaruga إن وجود آلية ردع قانونية قد يمنع أصلًا محاولات استحواذ ذات نوايا سياسية أو أمنية.
ومع اقتراب موعد التصويت النهائي، تجد سويسرا نفسها أمام معادلة دقيقة: الحفاظ على صورتها كواحة للأعمال الحرة، وفي الوقت ذاته حماية صناعاتها وتقنياتها الحيوية في عالم لم يعد الاقتصاد فيه منفصلًا عن الجغرافيا السياسية.
اقرأ أيضًا:

